يركب عدد من السوريين اليوم موجة وسائل التواصل الاجتماعي منتهزين الفرصة التي تقدمها هذه المنصات، حيث تصدر مجموعة من "الأشخاص" فجأة المشهد "الإعلامي"، على شبكات التواصل وخاصة منصة "يوتيوب"، ليأخذوا زمام المبادرة في التحدث بالشأن السوري تحت ذريعة وعنوان "صانعي محتوى ـ Digital creator".
المقصود بمصطلح "اليوتيوبر" هم الأشخاص الذين يستخدمون منصة اليوتيوب بشكل دوري للظهور والتحدث في مواضيع مختلفة يتابعها الجمهور وتعكس بعض اهتماماته. هناك تنوع كبير في المواضيع التي يتم تناولها على هذه المنصة، ولكننا نقتصر هنا على مجموعة من "صانعي المحتوى" تتناول مواضيع تهم القضية السورية، وخاصة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية.
إذا مررنا بسرعة بهؤلاء "المؤثرين" سنصاب بخيبة أمل عندما نسمع أن أحد هؤلاء المشاهير يعتقد أنه لم تعد هناك أي حاجة لقراءة كتب كاملة، بل يكفي أن يكون لديك ملخص بسيط لموضوع أي كتاب وهو بهذه الطريقة يظن أنه يبتكر طريقة عالمية لتعليم الناس الثقافة. أما الآخر فمضمونه الأساسي يعتمد على الصراخ والمسبّات. وهو يهين كافة القوى السياسية في الساحة السورية بحجة أنه ينتقدها، أما تحليلاته السياسية فهي أقرب إلى "الضرب بالمندل" بمعنى "ولا مرة زبطت معه".
ولو صدقنا توقعاته، لكانت أميركا قصفت إيران عشرات المرات وقضت على نظام الملالي، ولتخلى الجيش الأميركي عن قوات سوريا الديمقراطية 14 مرة ولغادر سوريا منذ 3 سنوات. لكن لم يحدث لا هذا ولا ذاك.
والبعض الآخر يكسب رزقه من المتاجرة بصراعات المنطقة وتنوعها الإثني والعرقي. ويكرر أحاديث مملة لا تكاد تختلف كثيراً عن لغة برامج التلفزيون السوري، مثل برنامج؛ "حديث القوات المسلحة" أو لغة محاضر اجتماعات حزب البعث. والخامس يخلط بين عباس ودباس ويختلق قصصاً وحكايات لا أساس لها من الصحة. يضاف إلى هؤلاء نموذج "ست البيت" التي تعيش حياة مملة فلا تجد أفضل من الثرثرة وحلقات الآكشن والتواصل مع المشاهير عبر الهاتف، وأخرى نتابع تحولاتها النفسية ومغامراتها العاطفية على مدار الفصول، وثالثة تتعمق في نظريات الأسرة والتعليم والتعايش الجندري الإنكليزي.
كل ذلك يعكس الأزمة الحقيقية التي يعيشها الشعب السوري في الداخل والخارج، حيث أصبحنا نشبه عنوان الفيلم المصري الشهير (سمك، لبن، تمر هندي)، مع بعض الاستثناءات النادرة جداً التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة لبعض الجادين الذين يظهرون لنا في مقاطع قصيرة هنا وهناك في بعض الأحيان، بعض الأشخاص اللطيفين وذوي القلوب الخفيفة، خاصة في مجال الموسيقا وخفة الدم. وبالفعل أصبح جمهور اليوتيوب السوري أشبه بمشجعي كرة القدم ومشجعي الأندية. فلكل ناديه و جماهيره الخاصة به.
لا يتسع لنا المجال هنا لذكرهم جميعاً، خاصة وأننا هنا في مجال المقال الصحفي وليس في مجال الدراسة السوسيولوجيا. لكن وبشكل عام، رغم اختلاف شخصياتهم واختلاف الخلفية الاجتماعية، واختلاف الثقافة والتجربة، وتعدد مصدر معلوماتهم، إلا أننا نرى أن القاسم المشترك بينهم هو «غياب المحتوى» والسطحية، رغم تنوع موضوعاتهم وأساليبهم.
المشاهير وفشل المراكمة المعرفية
القصد هنا ليس تناول وإهانة هؤلاء "المؤثرين" شخصيا، وتحميلهم المسؤولية لكل الخراب الذي أصاب القضية السورية، لا فقد تكون نواياهم حسنة وأهدافهم طيبة، ولكننا نلقي الضوء على أدائهم ونتيجة نشاطهم ومدى فعاليته. حيث تقاس أهمية أي عمل بمدى جدوى التراكم المعرفي فيه ومدى تبلور أفكار جديدة ناجحة. وباستثناء عامل التسلية وتمضية للوقت والحصول على بعض الأخبار من هنا وهناك. أي باستثناء الترفيه ونقل المعلومات ماهي المراكمة المعرفية أو الثقافية التي أنجزها اليوتيوب السوري؟ وإلى أي مدى أسهم في صياغة رأي جمعي أو أسهم في تحشيد ثقافي عام؟
إن الاستمرار دون محاولة ابتكار طرق جديدة للتأثير والتواصل مع الناس، واستكشاف موضوعات جديدة، ورفد واقع النشاط بدماء جديدة وأفكار حيوية، ووضع خطط بسيطة لمنهجية العمل وأهدافه، كل هذه الظواهر تبقى عقيمة ولا معنى لها. إنها ليست أكثر من واقع الدوران في حلقة مفرغة، وهذا ما ظهر جليا على مدار سنوات عمر الثورة.
وفي عصرنا الحالي، إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تختلف عن وسائل الإعلام التقليدية، فيجب على هؤلاء “المؤثرين” أيضًا الاعتراف بالتخصص. أي أنه كما أن هناك تعددا في أنواع الصحافة، هناك أيضًا اختلاف وتعدد في المحتوى.
هناك محتوى خاص بالإثارة والترفيه، وآخر بالمعلومات وثالث بالتحليل. وهناك محتوى ثقافي فني، وآخر سياسي دعاوي، وثالث اقتصادي ورابع نظري تاريخي، وخامس للشتم على نمط الصحافة الصفراء. أما الجمع بين هذه المواضيع دفعة واحدة هو خلطة كوكتيل .
نصف المثقف أخطر من عديم الثقافة
في مقال بعنوان "الصحفي المتغطرس" للصحفي المكسيكي نوا زافاليتا Noé Zavaleta، يقول: إن الصحفيين الجيدين لا يحكون "بطولاتهم" المهنية. لقد ملّت الجماهير هذه القصص الدرامية وأحاديث معاناتهم الشخصية، ورغبة الصحفي في تحقيق الشهرة واقتحام دور البطولة وجذب المشاهدين. دعوا ذلك للسياسيين ونجوم التلفزيون، اتركوا هذه الطريقة الساذجة "لليوتوبرز" والمؤثرين، الذين يلزمون هواتفهم بينما هم يدخلون أشياء غريبة في فتحات أنوفهم لجذب انتباه مشاهدي شبكات التواصل الاجتماعي".
لقد أصبح اليوتيوب جزءا من الثقافة الجماهيرية وارتبط بمحتوى تم تصميمه للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين وبهدف الربح أي هو شكل من أشكال سلعة للبيع. ورغم ذلك بدأت تسعى بعض الدراسات الحالية إلى رصد الدور الذي يمکن أن تؤديه متابعة مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي في التأثير على المتابعين، حيث قد يؤثر هذا الشخص أحياناً عبر آرائه أو أفكاره أو سلوكه في المتابعين الذين أسهموا بدور کبير في شهرته ويشمل التأثير مکونات مختلفة من الاعتقادات والمواقف والآراء والسلوك.
وإذاً كنا قد اتفقنا في مكان سابق أن الإعلام (لا يصنع قراراً) لكنه (يصنع رأياً) لذلك فإن أخطر ما في الإعلام بهذا المعنى هو (رسائل اللاوعي) التي يصدّرها، ووظيفتها خلق مشاعر دون أن يستطيع الوعي تحليلها، وبالتالي تخلق مشاعر متعة سهلة التناول لا تتطلب أي جهد بدني أو عقلي أو حتى تفاعلا أو قراءة أو تعليق، عندها سيأخذك المقطع المصوّر إلى عالم نجد فيه أن اللاواقعي يؤثر فينا بقوة الواقعي، لذلك نجد أن الاستسهال، وقلة الفهم وقلة الاحترام وابتغاء الشهرة والمال على حساب المصداقية يؤثر سلباً على أفكار المتلقي ويكرس حالة الكسل والفوضى لدى الجموع.
إن حصر محتوى اليوتيوبرز في نشر “الهراء” السياسي والثقافي والاجتماعي، مترافقاً مع بعض “الترفيه والمرح والتسلية”، ومع غياب الشعور بالمسؤولية والجهد الحقيقي لخدمة الشأن العام يؤدي إلى نتائج عكسية، وأهمها إعراض الناس عن قضاياهم. وتكريس السلبية والانغلاق. ونرى اليوم كيف أصبح لكل من هؤلاء "اليوتيوبرز" جمهوره الخاص، و"جيشه"، وحتى "بلطجيته"، وعشرات الآلاف من المتابعين، ومئات الإعجابات، وخطابات شعبوية وطائفية لا حصر لها.